رحيل الى شباك القدر

عالم رباني جليل، من رآه وجد الشهامة والعزة ترتسم على محياه، تحيطه، تظلله وتحميه، فإن لقيته وأنت لاتعرِفه ركنت لهيبته وتواضعت لمنطقه، وإن تحدث إليك وهو يعرفك فستصبح فَلَكاً تدور حول مداره المتجذر حكمة ونورانية، فإذا تخاطب بالألغاز فإنك تحتاج عمرك كله لتفك الشفرات والمفاهيم التي كان يريد إيصالها، وإن قبض عنق فكرة فإنه لايدعها حتى يوفيها تفصيلا وتبيانا، حَدِّثْهُ في ماتشاء أو مايشاء ستجده عميق علم يطفو فوق سطح، أشعر أني أحيا عصرا نبويا إذا مااستمعت إليه، يسيطر على كل ذرة في كياني ويجذبها نحوه، كنت أحاول بأن لا أخسر الحركة فوق الحرف إذا مانطق لسانه بها، فهي لاتنطلق إلا بميزان.
الشيخ الراحل – الشيخ جاسم !- نظر بعين قلبه إلى مالايرى، وشاهد الحقيقة أمامه محتسبا مفوضا أمره إلى الله عز وجل، فهو مثل الله حينما أطاعه وابتعد عن ذل عصيانه، كان عزيزاً بلا عشيرة، وغنياً بلا مال، ومهيباً بلا سلطان، نذر وجوده كل وجوده إلى ربه، فقد كان نصير الفقراء والمساكين أبا حنونا عليهم، حمل هم الإنسانية من صغره فكان من الفضلاء الأوائل المطالبين بسيادة العدل في الأرض، وعودة الحقوق إلى أصحابها، وسيادة المساواة بين عباده .
عندما نبحث عن الإتقان والتميز فإننا نشاهدها في روحية هذا الرجل، فقد كان يقينه قرآنيا، وخلقه نبويا، وتفويضه حسينيا، وصبره زينبيا، لم يترك العلم والعمل به، ولم تزلزله عواصف الدهر المتعاقبة .
فقدتك الإنسانية ولم تعرفك حق المعرفة أيها العظيم، وقد تخايل لي وأنا أرى نعشك في المسجد تتقدم المصلين في صلاة الظهرين بمشهد حي، فكما كنت إماما معلما في حياتك تعود لتكون إماما في مماتك، أما مشيّعوك فقد بنوا لك جسراً من الاكتاف، وشقوا الصفوف احتراما لقائدهم لينتصب على عرش جنات البرزخ، لم تمت ياسيدي بل كما ولدك رحم الإنسان فاستقبلتك الدنيا، فقد ولدتك الدنيا من رحمها إلى عالم هو أنسب إلى مخلص مثلك .